فصل: ذكر عود رسولهم في معنى الصلح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر قدوم الملك الأفضل وأمره بالعود عن تلك البلاد وكان قد وصل إلى حلب المحروسة:

ولما وصل أمر السلطان غليه بالعود عاد مع انكسار في قلبه وتشويش في باطنه، فوصل إلى دمشق مستعتباً، ولم يحضر إلى خدمة السلطان، فلما اشتد خبر الإفرنج سيّر غليه وطلبه، فما وسعه التأخر، فسار مع من كان قد وصل من العساكر الشرقية إلى دمشق، وكان وصله في يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة، ولقيه السلطان قريباً من العازرية، فترجل له جبراً لقلبه وتعظيماً لأمره، وسار وفي خدمته أخوه الملك الظافر وقطب الدين إلى ظاهر القدس.

.ذكر عود العدو إلى بلادهم وسبب ذلك:

ولما كانت ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة استحضر السلطان الأمراء عنده، فحضر الأمير أبو الهيجاء السمين بمشقة عظيمة وجلس على كرسي في خيمة السلطان، وحضر المشطوب والأسدية بأسرهم وجماعة الأمراء ثم مرني أن أكلمهم وأحثهم على الجهاد، فذكرت ما يسّره الله من ذلك. وكان مما قلته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما اشتد به الأمر بايعه الصحابة رضي الله عنهم على الموت في لقاء العدو، ونحن أولى من تأسّى به صلّى الله عليه وسلّم، والمصلحة الاجتماع عند الصخرة والتحالف على الموت، ولعل ببركة هذه النية يندفع هذا العدو، فاستحسن الجماعة ذلك ووافقوا عليه، ثم شرع السلطان بعد أن سكت زماناً في صورة مفكر والناس سكوت كأن على رؤوسهم الطير فقال: الحمد لله والصلاة على رسول الله، اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم ومنعته، وأنتم تعلمون أن دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم معلقة بذممكم، وأن هذا العدو ليس له من المسلمين من تلقاه إلاّ أنتم، فإن وليتم بأنفسكم والعياذ بالله طوى البلاد طي السجل للكتاب وكان ذلك في ذمتكم فإنكم أنتم الذين تصدّيتم لهذا وأكلتم مال بيت المال، فالمسلمون في سائر البلاد متعلقون بكم والسلام. فانتدب لجوابه سيف الدين المشطوب وقال: يا مولانا نحن مماليكك وعبيدك، وأنت أنعمت علينا وكبرتنا وعظمتنا وأعطيتنا وليس لنا إلا رقابنا وهي بين يديك، والله لا يرجع أحد منا عن نصرتك إلى أن نموت. فقال الجماعة مثل ما قال. فانبسطت نفسه بذلك المجلس وطاب قلبه وأطعمهم ثم انصرفوا وانقضى يوم الخميس على أشد حال التأهب والاهتمام حتى كانت العشاء الآخرة وجميعنا في خدمته على العادة، وسهرنا حتى مضى من الليل هزيع وهو غير منبسط على عادته ثم صلينا العشاء، وكانت العشاء هي الدستور العام، فصلينا وأخذنا في الانصراف فاستدعاني، فلما جلست في خدمته قال لي علمت ما الذي تجدد؟ قلت:لا. قال: إن أبا الهيجاء السمين أنفذ إليّ اليوم وقال أنه اجتمع عنده جماعة من المماليك وأنكروا علينا مواقفنا على الحصار وقالوا لا مصلحة في ذلك فإنا نخاف أن نحصر ويجري علينا مثل ما جرى على عكا وحينئذ تؤخذ بلاد الإسلام أجمع، والرأي أن نلقى مصاف فإن قدّر الله تعالى أن نهزمهم ملكنا بقية بلادهم. وإن تكن الأخرى يسلم العسكر ويمض القدس وقد حفظ الإسلام بعساكره مدة بغير القدس، وكان رحمه الله عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال فشقت عليه هذه الرسالة. وأقمت تلك الليلة في خدمته وهي من الليالي التي أحييتها في سبيل الله. وكان مما قالوه في الرسالة إن أردت أن نقيم فتكون معنا أنت أو بعض أهلك وإلاّ فالأكراد لا يدينون للأتراك، والأتراك كذلك، فانفصل الحال على أن يقيم من أهله مجد الدين بن فخروشاه وصاحب بعلبك. وكان رحمه الله يحدث نفسه بالمقام ثم صرف رأيه عنه لما فيه من الخطر على الإسلام، فلما أن قارب الصبح وأشفقت عليه خاطبته في أن يستريح ساعة، وانصرفت عنه فما وصلت إلا والمؤذن قد أذّن، فأخذت في أسباب الوضوء فما فرغت إلا والصبح قد طلع، فعدت إلى خدمته وهو يجدد الوضوء، فصلينا ثم قلت له قد وقع لي واقع أعرضه، قال وما هو؟ قلت: من كثر اهتمامه بما قد حمل على نفسه وقد عجزت أسبابه الأرضية ينبغي له أن يرجع إلى الله وهذا يوم الجمعة وهو أبرك أيام الأسبوع فيه دعوة مستجابة ونحن في أبر موضع فالسلطان يغتسل ويتصدق بصدقة خفية بحيث لا يشعر أحد أنها منه ويصلي بين الأذان والإقامة ركعتين يناجي فيهماربه ويفوض مقاليد أموره إليه ويعترف بالعجز عما تصدق له فلعل الله يرحمه ويستجيب دعاءه. وكان حسن العقيدة تام الإيمان يتلقى الأمور الشرعية بأكمل انقياد. ثم انفصلنا، فلما جاء وقت الجمعة صليت إلى جانبه في الأقصى، فصلى ركعتين ورأيته ساجداً وهو يذكر كلمات ودموعه تتقاطر على مصلاه، ثم انقضت الجمعة بخير، ولما كانت عشيتها ونحن في خدمته على العادة وصلت رقعة من جرديك وكان في اليزك وكان جملة ما فيها أن القوم ركبوا بأسرهم ووقفوا في التل وقت الظهيرة، ثم عادوا إلى خيامهم وقد سيّرنا جواسيس تكشف أخبارهم. ولما كانت صبيحة السبت وصلت رقعة أخرى يخبر فيها أن الجواسيس رجعوا وأخبروا أن القوم اختلفوا في الصعود إلى القدس، وقالوا نحن إنما جئنا من بلادنا بسبب القدس ولا نرجع دونه. وقال الأنكتار إن هذا الموقع قد أفسدت مياهه ولم يبق حوله ماء أصلا، فمن أين نشرب؟ فقالوا له نشرب من نهر نقوع بينه وبين القدس مقدار فرسخ، فقال كيف نذهب إلى السقي؟ فقالوا ننقسم قسمين قسم يركب إلى السقي وقسم يبقى على البلد في المنازلة ويكون الشرب في اليوم مرة، فقال الأنكتار: إذاً يؤخذ العسكر البراني الذي يذهب مع الدواب ويخرج عسكر البلد على الباقين ويذهب دين النصرانية، فانفصل الحال على أنهم حكموا ثلاثمائة من أعيانهم وحكم الثلاثمائة اثني عشر وحكم الإثنا عشر ثلاثة منهم، وقد بانوا على حكم الثلاثة، فما أمروا به فعلوه، فلما أصبحوا حكموا بالرحيل، فلم تمكنهم المخالفة وأصبحوا في بكرة الحادي والعشرين من جمادى الآخرة راحلين نحو الرملة وعلى أعقابهم ناكصين ولله الحمد. ومضى عسكرهم شاكياً السلاح، ولم يبق في المنزلة إلا الآثار، ثم نزلوا الرملة وتواترت الأخبار بذلك، فركب السلطان وركب الناس وكان يوم سرور وفرح. أفسدت مياهه ولم يبق حوله ماء أصلا، فمن أين نشرب؟ فقالوا له نشرب من نهر نقوع بينه وبين القدس مقدار فرسخ، فقال كيف نذهب إلى السقي؟ فقالوا ننقسم قسمين قسم يركب إلى السقي وقسم يبقى على البلد في المنازلة ويكون الشرب في اليوم مرة، فقال الأنكتار: إذاً يؤخذ العسكر البراني الذي يذهب مع الدواب ويخرج عسكر البلد على الباقين ويذهب دين النصرانية، فانفصل الحال على أنهم حكموا ثلاثمائة من أعيانهم وحكم الثلاثمائة اثني عشر وحكم الإثنا عشر ثلاثة منهم، وقد بانوا على حكم الثلاثة، فما أمروا به فعلوه، فلما أصبحوا حكموا بالرحيل، فلم تمكنهم المخالفة وأصبحوا في بكرة الحادي والعشرين من جمادى الآخرة راحلين نحو الرملة وعلى أعقابهم ناكصين ولله الحمد. ومضى عسكرهم شاكياً السلاح، ولم يبق في المنزلة إلا الآثار، ثم نزلوا الرملة وتواترت الأخبار بذلك، فركب السلطان وركب الناس وكان يوم سرور وفرح.

.ذكر رسالة الكندهري:

ولما فرغ بال السلطان برحيل العدو حضر رسول الكندهري يقول أن الأنكتار قد أعطاني البلاد الساحلية وهي الآن لي فأعد علي بلادي حتى أصالحك وأكون أحد أولادك فغضب السلطان لذلك غضباً عظيماً بحيث أنه كاد يبطش به فأقيم بين يديه فسأل أن يمهل ليقول كلمة أخرى فأذن له في ذلك فقال يقول إن البلاد في يدك فما الذي تعطيني منها فانتهزه وأقامه.
ولما كان اليوم الثالث والعشرين حضر الرسول وكان جوابه أن يكون الحديث بيننا في صور وعكا على ما كان مع المركيس، ثم وصل بعد ذلك الحاجب يوسف صاحب المشطوب من عند الإفرنج وذكر أن الأنكتار أحضره وأحضر الكندهري وأخلى المجلس وقال له قيل لصاحبك أنّا قد هلكنا نحن وأنتم والأصلح حقن الدماء ولا ينبغي أن تعتقد أن ذلك لضعف مني بل للمصلحة ولا تغتر بتأخري عن منزلي فالكبش يتأخر لينطح وأن يكون هو الواسطة بينهم وبين السلطان وأنفذ مع الحاجب شخصين يسمعان الكلام من المشطوب وكان ظاهر الحال الكلام في إطلاق بهاء الدين قراقوش وباطنه في معنى آخر وأخبر الحاجب أنهم رحلوا عن الرملة قاصدين يافا وأنهم على غاية الضعف والعجز عن قصد مكان آخر فاستحضر المشطوب من نابلس لسماع الرسالة وكان الجواب إلى الكندهري أن نعطي عكا ونصالحه على مال ويتركنا والأنكتار على بقية البلاد.
وكان رحمه الله قد جعل في مقابلة عكا عسكراً خشية خروج العدو إلى النواحي التي تليها فلما كان الثاني والعشرون خرج العدو من عكا غائرين على ما يليها من البلاد والرساتيق فثارت عليهم الكمينات من الجوانب وكان قد شعر العسكر الإسلامي بخروجهم فكمن لهم فأخذوا منهم جماعة وقتلوا جماعة ولله الحمد.

.ذكر عود رسولهم في معنى الصلح:

ولما كان يوم الجمعة السادس والعشرين من الشهر عاد رسولهم صحبة الحاجب يوسف وقد حمل رسالة يؤديها بحضور صاحبهم وهي أن الملك الأنكتار يقول إني راغب في مودتك وصداقتك وأنه لا يريد أن يكون فرعون بملك الأرض ولا يطن ذلك فيك ولا يجوز لك أن تهلك المسلمين كلهم ولا يجوز لي أن أهلك الإفرنج كلهم وهذا ابن أختي الكندهري قد ملكته هذه الديار وسلمته إليك ليكون هو وعسكره تحت حكمك ولو استدعيتهم إلى الشنق سمعوا وأطاعوا ويقول إن جماعة من الرهبان المنقطعين قد طلبوا منك كنائس فما بخلت عليهم وأنا أطلب منك كنيسة وتلك الأمور التي كانت تضيق صدرك مما كان يجري في المراسلة مع الملك العادل تركتها وأعرضت عنها ولو أعطيتني مقرعة أو خربة قبلتها. فلما سمع السلطان هذه الرسالة جمع أرباب الرأي وأصحاب مشورته وسألهم عما يكون الجواب لهذه الرسالة فما منهم إلا من أشار بالمحاسنة وعقد الصلح لما كان قد أخذ المسلمين من الضجر والتعب وعلاهم من الديون. واستقر الحال على هذا الجواب.
إذا دخلت معنا هذا الدخول فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، إن ابن أختك يكون عندي كبعض أولادي وسيبلغك ما فعل معه وأنا أعطيك أكبر الكنائس وهي القمامة وأما بقية البلاد فنقسمها فالساحلية التي بيدك تكون بيدك والذي بأيدينا من القلاع الجبلية يكون لنا وما بين العملين يكون مناصفة وعسقلان وما وراءها يكون خراباً لا لنا ولا لكم وإن أردتم قراها كانت لكم والذي كنت أكرهه حديث عسقلان.
وانفصل الرسول طيب النفس وذلك في ثاني يوم قدومه وهو الثامن والعشرون واتصل الخبر بعد وصول الرسول إليهم أنهم راحلون إلى عسقلان طالبون جهة مصر ووصل رسول من جانب قطب الدين بن قليج أرسلان يقول إن البابا قد وصل إلى القسطنطينية في خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى وقال الرسول إني قتلت في الطريق اثني عشر فارساً. ويقول تقدم إلى من يستلم بلادي مني فإني قد عجزت عن حفظها فلم يصدق السلطان هذا الخبر ولم يكترث به.

.ذكر عود رسول الإفرنج ثالثاً:

ولما كان التاسع والعشرون وصل الحاجب صاحب المشطوب ومعه جفري رسول الملك فقال إن الملك شكر إنعام السلطان وقال إن الذي أطلبه منك أن يكون لنا في قلعة القدس عشرون رجلاً وأن من سكن من النصارى والإفرنج لا يتعرض إليهم وأما بقية البلاد فلنا منها الساحليات والوطاة والبلاد الجبلية لكم. وأخبرنا الرسول من عند نفسه مناصحة أنه قد نزل عن حديث القدس ما عدا الزيارة ولكن يقول ذلك تصنعاً لضعفنا وأنهم راغبون في الصلح وأن الأنكتار لا بد له من الرواح إلى بلده وأقام يوم الاثنين سلخ الشهر وكان معه في هذه الدفعة بازيان هدية للسلطان فاستحضر الأمراء بأسرهم وشاورهم فيما يكون الجواب لهذه الرسالة وانفصل الحال على هذا الجواب وهو أن القدس ليس لكم فيه حديث سوى الزيارة فقال الرسول وليس على الزوار شيء يؤخذ منهم. فعلم من هذا القول الموافقة وأما البلاد كعسقلان وما وراءها فلا بد من خرابه فقال الرسول قد خسر الملك على سورها مالاً جزيلاً، فقال المشطوب للسلطان المصلحة أن نجعل مزارعها وقراها في مقابلة خسارتها فأجاب وأن الدارون وغيره تخرب وتكون بلادها مناصفة. وأما باقي البلاد فتكون لهم من يافا إلى صور بأعمالها. ومهما اختلفنا في قرية كانت مناصفة. هكذا كان جواب رسالته وسار في يوم الثلاثاء مستهل رجب ومعه الحاجب يوسف وكان قد طلب رسولاً مذكوراً يحلفه إن استقرت القاعدة فأخر السلطان تسيير الرسول إلى حين استقرار القاعدة وأنفذ لهم هدية حسنة في مقابل هديتهم وما كان يغلب في الهدايا.